بسبب غياب الإثبات التاريخي والأثري، لايمكن تحديد تاريخ تأسيس الدير. لكن من المعروف تقليداً، أنه تأسس في العصور المسيحية القديمة (الممتدة من القرن الرابع إلى السادس). يذكر المؤرخ العربي الطبري (839-923م) هذا الدير تحت اسم ” سيدنا الخضر أبو العباس”. ومن المستغرب، أن الصليبيين الذين احتلوا هذه المنطقة طوال قرنين من الزمن، لم يتركوا أي أثر مكتوب يخبّر عن هذا الصرح. ومن الأرجح أنّ الكنيسة القديمة شيّدت فـــــــي العصر الصليبي ولا بدّ من وجود علاقة ما، كانت قائمة بين الدير وقلعة الحصن. في العهد العثماني يزداد التاريخ وضوحاً، وتكثر المصادر التي تتحدث عن الدير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
منذ حوالي العام 1850، بدأ دير القديس جاورجيوس _ الحميراء يشهد نموّاً سريعاً من حيث عدد الرهبان والممتلكات، وذلك في إطار ازدهار أعم شمل الطوائف المسيحية بعامّة في سورية. وبلغ ذروته في عهد الأرشمندريت جراسيموس اليونانيّ بين 1870 و 1900، عندما كان الدير يضمّ ثمانين راهباً وعلمانياً ويقدم بين مائتين وأربعمائة ليرة ذهبية للكرسي البطريركي في دمشق. كمـا شرع جراسيموس ببناء طابقين في الجناح الشرقي وطاحونتين، وابتاع أكثر من سبع قرى مع أراضيها الزراعية ومواشيها وقطعانها وحيواناتها الأخرى. وفي تلك الحقبة بلغ الدير قمة تطوره وازدهاره.
تمثلت نشاطات الدير، الأكثر شهرة، خلال ذلك العهد في المعارض الكبرى التي كانت تقام فيه خلال عيديه السنويّين، فتستمر مدة أسبوعين وتنتهي يوم العيد. كانت تلك المعارض أّيام حجّ وصلاة وتقوى، يفيد منها الناس لشراء شتّى أنواع الحاجات. وكان المسحيّون والمسلمون يتدفّقون من أنحاء سورية كافة لزيارة المعرض، الذي كان يقصده التجار من مختلف الطوائف ليصرّفوا فيه منتوجاتهم. وثمة رسائل ما تزال محفوظة تخبرنا أنّ عيد الخضر ( القديس جاورجيوس) لم يكن يقام في الدير، لعدم وجود مكان مخصص له، بل في قرية الحصن المجاورة. فقط في العام 1872، انتقل العيد إلى جوار الدير. وفي رسالة خاصة وجهها بطريرك أنطاكية إلى حاكم دمشق يطلب غبطته عدم إقامة العيد بالقرب من الدير، بسبب الاشتباكات التي قد تنشأ بين الناس.
تقع السوق حاليا التي يقام فيه المعرض، مرتين في السنة، شمال الدير وتحتوي على مائة محل. وقد بنيت في العام 1913، بمبادرة من البطريرك غريغوريوس حدّاد، في عهد الأرشمندريت كيرللس اليونانيّ الأصل، يتكون البناء من سلسلة من القناطر التي تشكل ممراً يمتد مقابل الجدار الشمالي للكنيسة العليا. يتبع هذا البناء المخطط ذاته الذي كانت تشيد وفقه الأسواق في المنطقة، خلال القرن التاسع عشر، وكانت البُسط هي السلعة الرئيسة في هذا المعرض.
عرف الدير مرحلة انحطاط في النصف الأول من القرن العشرين لأسباب عدة منها سوء الإدارة وتبديل الرؤساء على نحو مستمر، ونشوب الحرب العالمية الأولى. فازدادت الديون تدريجياً وبيع جزء من الأراضي التابعة. وفي العام 1899، كتب الشماس أبيفانيوس إلى البطريرك شاكياً الحالة المتردية التي وصل إليها الدير. وجاء في رسالته أن الرئيس بات بلا سلطة على الرهبان، وأنه طاعن في السن، إلى حد يحول دون تمكنه من إدارة شؤون الدير.
سبّب اندلاع الحرب العالمية الأولى ارتفاعاً كبيراً في أسعار جميع السلع. فأمر البطريرك الدير بإرسال المؤونة حتى يقتات الشعب الجائع المخيّم في أراضي البطريركية في دمشق. ولكن رئيس دير القديس جاورجيوس لم يتمكن من تلبية هذا الطلب، لأن الجنود الأتراك صادروا الأراضي والمحاصيل والمؤونة. فأرسل إلى البطريرك موضحاً دقة الوضع، ذلك بأنه رغم المأساة التي كان الدير يعانيها، ظل الناس من حمص وصافيتا يقصدونه بإعداد هائلة، باحثين عن مأوى لهم.
ازدادت الحالة سوءاً بسبب الجراد الذي اجتاح المنطقة في العام 1915، فنتجت من ذلك مجاعة رهيبة أودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص، وقد قال الأرشمندريت شعيا، في رسالة وجّهها إلى البطريرك، ” إن الجراد لم يملأ المروج والبساتين وحسب بل البيوت والمساكن ولم يترك شيئاً في طريقه”، فلم ينجُ من الأذى والخسائر سوى عدد ضئيل جداً من العائلات.
رغم ذلك، تبقى مسألة ملكية الوقف هي الأمر الأدق الذي ألحق الضرر الأكبر بالدير،إذ أثار غياب صكوك الملكية الرسمية خلافاً بين الدير وسكان القرى المجاورة، فمنذ العصر الوسيط لُزمت أراضي الدير للمزارعين والفلاحين، الذين كانوا يتقاسمون الغلّة مع الدير، ويورثون التزاماتهم إلى أبنائهم من بعدهم. ولكن بدءاً من عشرينيات القرن العشرين وبتشجيع من الإدارة الفرنسية بدأ الفلاحون، ملتزمو الأراضي، يتساءلون عن مدى صحة هذه العادة القديمة، مطالبين بالغلة كاملة. فغرق الدير في نزاعات مع أهالي القرى المجاورة دامت ثلاثين سنة ما أدى أحياناً إلى حصول اعتداء على الرهبان.
في عهد رئيس الدير ألكسندروس حجا، (1925-1934م)، عانى الدير ضائقة مالية حادة مع ازدياد ديونه وخسارته الكثير من أملاكه، إذ توجب عليه الدير تسديد الضرائب عن الأراضي، التي توقف ملتزموها عن تسديدها مطالبين بإعتاقهم من تعهداتهم. فلم يكن أمام الدير من خيار لحل الأزمة إلا بيع الأراضي.
رغم هذه الصعوبات، بقي دير القديس جاورجيوس – الحميراء يؤمّن الضيافة والراحة للمسافرين، وملجأ للفقراء والمنبوذين. وقد آوى الدير المصابين بالأمراض النفسية والصرع، وجميع الذين رذلهم المجتمع لاعتبارهم مسكونين بروح شيطانية. فالقديس جاورجيوس القادر على قهر الشيطان لكونه انتصر على التنين، استقبل هؤلاء المساكين في ديره ليشفيهم. ولذلك اشتهر الدير بكرمه وانفتاحه على مسيحيي سورية ومسلميها.
تشكل مدرسة الدير محط خاصة في تاريخه الحديث. ففي السابع من آب 1913، وجه الأرشمندريت شعيا رسالة إلى البطريرك، يسأله فيها الإذن بافتتاح مدرسة ، تتسع لسبعة وعشرين طالباً داخلياً وعشرين طالباً خارجياً. وبعد ذلك بوقت قصير افتُتحت المدرسة التي ضمّت طالبين إضافيين زيادة على العدد المرجوّ. لكن الدروس ما لبثت أن توقفت بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي 14 آب 1920، طلب رئيس الدير مجدداً الإذن بإعادة فتح المدرسة، نزولاً عند طلب سكان القرى المجاورة الملح. ذلك بأن هؤلاء اتفقوا على التعاون في سبيل إعادة فتح المدرسة، فجمعوا مبلغاً قدره 575 ليرة ذهبية استرلينية – وهو مبلغ ضخم- ما مكّنهم من البدء بأعمال البناء. بعد ذلك بفترة وجيزة، فتحت المدرسة أبوابها، برعاية غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، المثلث الرحمة.
كانت السنوات الأربع الأولى أفضل عهد عرفته المدرسة، إذ قدمت التعليم وفرصاً لمستقبل أفضل لأطفال المنطقة. والمواد التي دُرّست فيها كانت: العربية والفرنسية والإيمان الأرثوذكسي. وقد بلغ عدد التلاميذ في العام 1923 ثلاثة وثلاثين تلميذاً داخلياً وخمسة عشر تلميذاً خارجياً، من بينهم بعض السنّة وتلميذ علويّ. قام بالتعليم في المدرسة ثمانية أساتذة، أما الأعمال التدبيرية الأخرى من طبخ وخدمة فكانت تتكفل بها مجموعة من الموظفين، وكانت تقدم الدولة منح لأطفال العائلات الفقيرة. مع ذلك، نشأت مشاكل حادة في السنة الخامسة من عمر المدرسة، فقرر رئيس الدير ألكسندروس حجا إغلاقها بسبب قلة عدد التلاميذ.
أعيد افتتاح المدرسة في العام 1926، ولكن عدد تلاميذها لم يتجاوز الخمسة والعشرين، وقد عمل فيها ثلاثة أساتذة فقط. أما أهم المواد التي درّست فيها فكانت الدين، واللغتين العربية والفرنسية مع آدابهما، والرياضيات باللغتين، وتاريخ سورية والعالم وجغرافيتهما، والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء. كما أُدخلت مواد أخرى منها اللغة الإنكليزية والرسم والرياضة والخط والموسيقى إلى البرنامج الدراسيّ، وخصّت الحكومة المدرسة بمائتين وخمسين ليرة سورية سنوياً. كما زار المستشار الفرنسي، الدير في العام 1927، وأبدى إعجابه بالمدرسة وتقديره لها فقدّم ستّة آلاف فرنك فرنسي للإدارة.
في العام 1935، تحولت المدرسة إلى مؤسسة تعليمية إكليريكية مدّة الدروس فيها بين الثلاث والأربع ساعات يومياً، كان الطلاب يمضون وقتهم بعدها في القيام بأعمال مختلفة ضمن الدير. كما قدمت المدرسة للطلاب دروساً في الموسيقى واللاهوت واللغة اليونانية. وظلت المدرسة تعمل على هذا النحو حتى العام 1954، عندما أُقفلت رغم احتجاج السكان المحليّين.