افرحي، يا علوّاً لا ترقى إليه الأفكار البشرية افرحي يا عمقاً لا تدركه حتى أبصار الملائكة! يعرض القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية هذه الفكرة العجيبة: ” لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح. أو من يهبط إلى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات” ( رو 10 : 6-7). كيف استطعت أيها الرسول العظيم بولس أن تكتب وتفكر بإمكانية قيام إنسان ما بالتفكير بمثل هذا؟ وجواب القديس: لم أفكّر ولكني رأيت هذا الأمر العسير التحقق يتحقق. بواسطة تجسد الأقنوام الثاني من الثالوث القدوس. لقد وُلد كإنسان متواضع وعاش بيننا وتألم وصُلب مثله مثل أي إنسانٍ على وجه الأرض لكن يسوع المسيح لم يبق في القبر، لقد قام، أي صعد من الجحيم والهاوية إلى الأرض ومن ثم إلى السماء، إلى عرش الألوهة بعد 40 يوماً من قيامته. وهذا حدث تاريخي جرى في الزمن سواء آمن البشر به أم لم يؤمنوا. وتشهد له الكنيسة المقدسة التي لا تحابي أحداً، لقد عاشت الكنيسة هذا الحدث وهي تعيشه باستمرار و تُذيعه في العالم بأسره. في شخص المسيح المتأله يتلاقى تاريخ البشرية مع سر الله. هذا السر متعالٍ جداً لا يمكن الدنو إليه من قبل التفكير البشري، وهو عميق جداً لا يمكن النظر إليه من أبصار الملائكة، رغم انهم يوصَفون بأنهم كثيرو الأعين إلا أنهم لم يستطيعوا الدخول في أعماق وكُنه السر الإلهي. سر الله غير مُدرك من قبل التفكير البشري ولا حتى من الملائكة! لكنه رغم ذلك، مرتبط بالتاريخ ارتباطاً وثيقاً وهذا يمنحنا إمكانية دراسته وتأمّله. في مجد السماوات يجلس الرب ليس فقط كإله وإنما كإنسان أيضاً، أي كإله وإنسان معاً، هناك على عرش المجد السماوي تجلس أيضاً طبيعتنا البشرية. هذا مخطط الله الهادف لخلاص جنسنا! إنه مخطط محبة وحكمة وقوة ولا بد لنا أن نتوقف عند شخصيةٍ مميزةٍ واستثنائية، شخصية سامية جداً مصطفاة ومنتقاة من بين كل المختارين وهي الفتاة التي مكّنت الأرض من الاتحاد مع السماء.
كل كلمات ” افرحي” التي نقولها هي أغصانٌ وورودٌ متفرعةٌ عن البذرة التي قام الله نفسه بزراعتها. سر تدبير الله هو علوّ لا ترقى إليه أفكارنا البشرية، إذ كيف يمكننا أن ندرك نزول الإله إلى أحشاء العذراء؟ والسر الذي لا يقل عجباً هو التكريم والتمجيد الذي نالته والدة الإله العذراء من قبل ابنها. لقد مَنحت الكلية القداسة طبيعتنا البشرية للإله الكلمة مما جعلها تصل إلى التأله. وأصبحت والدة الإله وهذا هو مفتاح الليتورجيا الأرثوذكسية. إننا أمامها نحني ركب قلوبنا متعجبين من المجد الذي يحيط بها وشاكرين إياها على غنى تقدمتها العظيمة للبشر.
الدور الثاني: افرحي، يا أم الحمل والرّاعي افرحي، يا حظيرة الأغنام الناطقة: عندما سمع الرعاة تسبيح الملائكة، انطلقوا على الفور ليسجدوا للمخلّص كأنه الراعي العظيم وهناك كان يتنظرهم العجب المستغرَب: رأوا الراعي حملاً لا عيب فيه!”. تلتقي في شخص يسوع متضاداتٌ مذهلةٌ ومدهشةٌ تتخطى المنطق البشري، هو المعلّم ولكنه الكلمة أيضاً، هو الزارع، ولكنه الزرع أيضاً، هو الملك والملكوت، المرشِد والطريق، المقرِّب الذي يقدم الذبيحة وفي الوقت نفسه المقرَّب أو الضحية المقدّمة لأجل خلاص العالم. هو الراعي وهو الحمل أيضاً. مسيحنا وحده من يمتلك هذه الصفات لأننا نجد في شخصه الاتحاد بين الطبيعة الإلهية والبشرية والارتباط العظيم بين عمق التواضع وقمة المجد. كان اليهود قديماً يقدّمون ذبائح تكفيرية وكانت تحمل هذه الذبائح معنىً مزدوجاً: الأول تربوي، غايته الأساسية حفظ اليهود من عبادة الأوثان والمعنى الثاني فيتلخّص بصفة النبوءة. إذ لم تكن هذه الذبائح تقدّم لخلاص الشعب بل كانت تهيؤهم للذبيحة الخلاصية العظيمة. تلك الذبيحة التي تضمن للإنسان الخلاص من نتائج الخطيئة، هي ذبيحة الصليب التي قدّمها ربّنا وسيدنا يسوع المسيح. في العهد القديم، قدم العبرانيون في فصحهم الأول في مصر الحملَ (خروج 12)، هذا الحمل كان يرمز للمسيح يسوع، الذبيحة الخلاصية العظيمة. حمل الله يحمل على كاهله خطيئة العالم! لا شيء أكثر ثقلاً من الخطيئة ولا شيء أكثر ضعفاً من حملٍ وديعٍ. الحمل باختصار مسالمٌ ووديعٌ وضعيفٌ ورغم ذلك هوذا حمل الله يرفع خطيئة العالم من خلال ارتفاعه على الصليب. كما نجد في سفر الرؤيا :” ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة وفي وسط الشيوخ خروفٌ قائمٌ كأنه مذبوحٌ” (رؤ 5 :6) وإذ أردنا أن نصوّر مواضيع إيماننا أي موت وقيامة المسيح لن نجد صورة أكثر تعبيراً من هذه: خروفٌ مذبوحٌ وقائمٌ. كما نجد نبوءات في العهد القديم شهادات كثيرة أن ربنا الحمل هو راعٍ أيضاً. في نبوءة أشعياء: ” كلنا كغنمٍ ضللنا مِلنا كلّ واحدٍ إلى طريقه” ( أش 53 :6). والله عندما رأى شعبه كالغنم الشارد أرسل لهم راعياً. كما تنبّأ النبي ميخا، في بيت لحم الصغيرة يولد الراعي، الذي بولادته الأزلية خرج من عند الله الآب ليرعى ويخلّص شعب اسرائيل (ميخا 5: 2،4). هذا الراعي حنونٌ ولطيفٌ إلى درجة كبيرة كما في مزامير داوود النبي: ” الربّ راعيَّ فلا يعوزني شيءٌ..”( مز 23). يرعى الرب خرافه بمحبّة ، بحيث لا يعوزها أيّ شيء. يشعر داوود النبي وكلّ مؤمنٍ منّا بالأمان والسعادة بالقرب من الراعي العظيم. الراعي الصالح يبحث عن خروفه الضائع في الجبال وبين الصخور والأشواك، يترك قطيعه وخرافه التسعة والتسعين وينطلق بقلقٍ باحثاً عن الواحد الضالّ، وإذ وجده يضعه على منكبيه فرحاً دون أن يكترث بتعب البحث عنه ويأتي إلى بيته ويدعوا الجيران والأصدقاء ليفرحوا معه، هذا هو الراعي الحقيقي الصالح والمتحنن. وما من أحد قادرٍ على خطفها من أحضانه، يكفي فقط، أن تختار هذه الخراف البقاء إلى جانبه. كم هو عظيمٌ الأمان والدفء والحنان الذي يمكننا أن نجده في أحضان الراعي الصالح الذي يحبّنا كثيراً. ما هو ميدان أو حظيرة الراعي الصالح؟ إنها الكنيسة دون أدنى شك. أما رمز هذه الكنيسة ونموذجها المتجسد فهي والدة الإله الكلية الطهارة. كما يصفها القديس يوحنا في سفر الرؤيا: ” وظهرت آيةٌ عظيمةٌ في السماء امرأةٌ متسربلةٌ بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليلٌ من اثني عشر كوكباً” (رؤ 12: 1). هذه المرأة هي الكلية القداسة كرمزٍ للكنيسة! إننا نكرم والدة الإله ونعظّمها عن استحقاق نحن جميعنا خراف المسيح الناطقة، أعضاء كنيسة المسيح، أعضاء الكنيسة، ونطلب بجرأة وشجاعة شفاعتها. هي نموذج وقدوة حياتنا الكاملة في المسيح رمز الكنيسة، هي العذراء التي ترعانا في مراعي النعمة الإلهية. منها أخذ الإله طبيعتنا البشرية، فصارت مكاناً يرتعي فيه ابن الله وكلمته. ” فرأوه حملاً لا عيب فيه يرتعي في حضن مريم” وكذلك حظيرةً نستطيع نحن أيضاً أن ” نرتعي” فيها الإلهيات لنصير شركاء الطبيعة الإلهية”.
المرجع: كتاب يا ذات كل تسبيح