الرئيسية / هندسة الدير

هندسة الدير

يتميّز الدير بكبر حجمه الذي يجذب انتباه الناظر إليه، بخاصّة من الجهة الجنوبيّة. الأسلوب العمرانيّ غير متجانس بما أنّ الدير، منذ العصور المسيحيّة الأولى، ما انفكّ ينمو ويتبنّى أشكالاً عمرانيّة جديدة. وبخلاف أديرة لبنان، التي شهدت بشكل عامّ، فترات من الهجران والدمار، فإنّ الحياة الرهبانيّة في دير القدّيس جاورجيوس – الحميراء، نعمت باستمراريّة ناشطة على مدى قرون من الزمن.

 أسوار الدير تجعله أشبه بالقلعة. وهو يتألّف من أربعة طوابق ويحتوي على كنيستين وخمس وخمسين غرفة، تستخدم لأهداف متنوّعة: فمنها الصوامع ومنها غرف الاستقبال والأقبية، فالمخازن، والإسطبلات. الجزء الأقدم، وهو اليوم يشكّل الطابق السفليّ، كان في الأصل مغارة تحوط بها صوامع النسّاك. الواجهة الجنوبيّة، التي ما تزال بحالة جيّدة، تعود إلى العهد المسيحيّ القديم: فبابها وعتبتها، المبنيّة من الحجر البركانيّ الملبّس بأناقة، كانا يكوّنان المدخل الرئيس للدير، وهما شاهدان فريدان على أقدم حقبة في تاريخه. الباب منخفض جدًّا (93×64 سنتم) بحيث يتوجّب على المرء الانحناء ليمرّ عبره. ثمّة أبواب صغيرة مماثلة تعود إلى المرحلة الممتدّة بين القرنين الرابع والسادس، نجدها في أنحاء سورية كافّة وقد حفرت على بعضها رموز مسيحيّة. بجانب هذا المدخل توجد نافذة صغيرة، كان الرهبان يوزّعون عبرها، الطعام على المحتاجين ويبشرون بمبادئ الإيمان.

يؤدّي الباب الصغير إلى أربع غرف متلاصقة تعلو جميعَها قببٌ أسطوانيّة. الغرفة الأولى طويلة وضيّقة ويخترق جدارها الغربيّ باب. الثانية مظلمة وفي وسطها بئر، وجدارها الخلفيّ يتكوّن من الصخر الصلب. أمّا الغرفة الثالثة فتنيرها فتحة في السقف. وفي ما خلا الجدار الصخريّ فإنّ جدران هذه الغرفة مبنيّة بحجارة غير متناسقة وغير مصقولة. ومؤخّرًا بوشر بالتنقيب في هذه الغرف السفليّة بهدف إزالة الوحل الذي كان يغطّي أرضها، والذي بلغت سماكته الخمسين سنتمترًا. والواقع أنّ هذه الغرف المبنيّة جزئيًّا في الصخر، والتي تدور جميعها حول مَقدِسٍ مركزيّ، تدلّنا على الشكل الأوّل للرهبنة الذي انتشر في سورية، في العصور المسيحيّة الأولى. وفي مرحلة لاحقة رصفت الأرض بالبلاط ودخلت الإنارة الغرف، من أجل عرض الممتلكات والأدوات القيّمة المحفوظة في الدير.

تكاد الكنيسة التي شيّدت في العهد الصليبيّ تحتلّ الطابق الأرضيّ بكامله. وكان مدخلها الغربيّ الأصليّ بابًا خفيضًا مبنيًّا بالحجر البركانيّ وهو يشبه باب الطابق السفليّ، ما عدا الصليب المحفور فوقه. ومؤخّرًا كشفت الجدران وهي مبنيّة بحجارة غير مقصّبة. تتألّف هذه الكنيسة من صحن واحد تعلوه ثلاث قبب مضلّعة ترتكز على أفاريز مزدوجة اللون يتكوّن كلّ منها من تاج أبيض، يستند إلى عمودين أسودين قصيرين. وعلى هذه التيجان حُفرت أزهار الزنبق أو أقواس في داخلها صلبان وأوراق. والجدير بالذكر أنّ شكل التاج ومظهره وبخاصّة استخدام اللونين، هي ميزة خاصّة بالفنّ المملوكيّ.

يقسم إيقونسطاس أنيق الصحن عن الهيكل الذي ينتهي بحائط مستقيم وتعلوه قبّة أسطوانيّة عَرضيّة الامتداد. ومن الملاحظ في أسفل الإيقونسطاس الخشبيّ، وجود جدار خفيض مغطّى بالآجرّ الخزفيّ العثمانيّ، الذي يدلّ تراصفه غير المتناسق على أنّه استخدم سابقًا في موضع آخر. ثمّة، في الجدار الشماليّ للهيكل، كوّة كبيرة مربّعة الشكل مغطّاة بشعريّة برّاقة وغير مألوفة، قوامها حجارة سوداء وبيضاء، وهذا نموذج موجود أيضًا في العمران المملوكيّ. وتشير هذه الشعريّة وأفاريز الهيكل إلى أنّ الكنيسة، وإن شُيّدت في الأصل في العهد الصليبيّ، فقد رُمّمت في العهد المملوكيّ.

 ما يزال البلاط القديم في النصف الشرقيّ من الهيكل بحالة جيّدة. ونجد أمام الإيقونسطاس شكلاً زخرفيًّا، من الفسيفساء الملوّنة منسّقًا بطريقة هندسيّة. ومن النادر في هذه المنطقة وجود كنائس حافظت على بلاطها الأصليّ، ولاسيّما إذا كان من الفسيفساء.

أبنية الدير الرئيسة نجدها على مستوى الطابق الأول. بعد أن تركن سيّارتك في ساحة كبيرة معبّدة، تدخل الدير عبر بوابة تعود إلى العصر الوسيط رمّمت حديثًا، وتتألّف من باب استُحدث في قنطرة مزيّنة بالنقوش. ثمّ يقودك ممرٌّ مقبّبٌ إلى الساحة الداخليّة، التي يحدّها عن اليمين، مكتب استعلامات ومحلّ بيع وغرف انتظار. إلى اليسار يمتدّ رواق ضخم مقنطر، خلفه مكتب الأسقف وقاعة المحكمة وغرفة استقبال واسعة. وهذا القسم يرقى إلى العهد العثمانيّ.

لا يجمع بين الأبنية المحيطة بالساحة الداخليّة نمط عمرانيّ موحّد، ذلك بأنّها شيّدت في حقب زمنيّة متباعدة. في الواقع، لا يوجد في البطريركيّة الأنطاكيّة أيّ دير يمكن أن يقال عنه إنّه يملك نمطًا عمرانيًّا متناسقًا بالكامل، ذلك بأنّ الأبنية التي تضاف حديثًا، نادرًا ما يُخطّط لها أن تتلاءم والقديمة. على سبيل المثال، يتألّف الجناح الواقع شرق الساحة الداخليّة والذي شيّد في عهد الأرشمندريت جراسيموس (1870-1900)، من سلسلة من القناطر وطابق علويّ، ولكنّ الجهتين الجنوبيّة والغربيّة خاليتان من القناطر، والنوافذ الموجودة في الحائط الخارجيّ لغرفة الطعام، تطلّ على وادٍ أخضر. وفي الطابق العلويّ من الجهة الجنوبيّة غرف الزوار. أمّا صوامع الرهبان، فهي في الطابق العلويّ من الجهة الغربيّة.

 ثمّة في الساحة الداخليّة أدراج تؤدّي إلى الكنيسة القديمة القائمة في الطابق السفليّ. يتألّف القسم، شمال الساحة الداخليّة، من رواق مقنطر يؤدّي إلى الكنيسة الجديدة التي بنيت بين العامين 1857 و1863، والتي تتكوّن واجهتها الخارجيّة البسيطة والمتواضعة من الحجر الكلسيّ المغريّ اللون، وتقتصر زخرفتها على بعض الكوّات المستديرة. تعلو الكنيسةَ قبّةٌ نصف دائريّة، وتغطّي السطحَ، باستثناء القبّة، حجارة قرميديّة حمراء تُضيف لمسةً من الابتهاج إلى بساطة البناء الخارجيّ. لكن ما إن تدخل الكنيسة، حتّى تُدهَش لحجمها وفخامتها إذ هي تشبه كنائس العصور الوسطى الفرنسيّة، من حيث هندستها الغوطيّة المحدثة التي كانت رائجة جدًّا في القرن التاسع عشر. يتبع مخطّط الكنيسة شكل الكاتدرائيّة مع قبّة نصف دائريّة. وثمّة صفّان من الأعمدة المفصّصة التي تنتهي بتيجان، تسند الأقواس المسنّنة، تقسم الكنيسة إلى ثلاثة أجنحة. كما ثمّة أعمدة ذات تيجان جُعلت في جدران الجناحين الجانبيّين كدعائم لها وهي تشبه، من حيث الشكل، أفاريز الكنيسة القديمة. أمّا ارتفاع الكنيسة فهو على مستويين: المستوى الأوّل يحتوي على قناطر مسنّنة وعريضة، والثاني على قناطر مستديرة الرأس مزوّدة بنوافذ تمتدّ بمحاذاة الجدران العلويّة ما يسمح بإنارة جيّدة للداخل. وقد كشفت الجدران فبرز الحجر المتناسق الجميل، وكانت  الرسوم تغطّي هذه الجدران إلا أنّها تضرّرت بسبب الرطوبة وامّحت. وفي الهيكل ثلاث موائد روسيّة الصنع.

 تفيد الرسائل الرسميّة المحفوظة من القرن التاسع عشر، أنّ ثمّة خانًا كان يقوم في الطابق الأرضيّ بجانب الكنيسة القديمة. وعندما ضاق بالأعداد الكبيرة من الزوّار والمسافرين الذين كانوا يأتون إلى الدير، جرى توسيعه وتجديده. وقد كتب رؤساء الدير تباعًا إلى المسؤولين العثمانيّين، في المنطقة، طالبين الإذن ببناء خان جديد، لكنّ الإذن أعطي فقط في العام 1876، حيث بدأت أعمال البناء. هكذا، أُضيف الخان الغربيّ إلى القسم الغربيّ من الدير. وبما أنّه كان يستقبل أعدادًا كبيرة من المسافرين، أُطلق عليه اسم “خان الموسم الحارّ”. ثمّ حوِّل لاحقًا تحويله إلى طاحونة، وبعدها إلى معصرة زيتون ما يزال راقودها الحجريّ موجودًا. أمّا اليوم، فيُستخدم هذا الخان كقاعة كبرى لإقامة النشاطات الديريّة المتنوّعة، والخان القديم المخصّص لزوّار فصل الشتاء هُدم.